إلي رحمة
الله
5– المربي
الفاضل الشيخ الجليل
عثمان
ناصر الصالح رحمه الله تعالى
1335-1427هـ
= 1917-2006م
بقلوب ملؤها الحزن العميق والأسف الشديد،
ودّعت المملكة العربية السعودية شيخَ المربين المربيَ الفاضلَ الشيخَ الجليلَ المسكونَ
بالحب والاحترام عثمانَ بنَ ناصر بن عبد المحسن الصالح ، الذي وافته المنية مساء
يوم الجمعة: 24/ من صفر 1427هـ (بالتقويم السعودي) و 23/ من صفر 1427هـ بالتقويم
الهندي ، الموافق 24/ مارس 2006م . وصُلِّي عليه عصر يوم السبت : 25/ صفر 1427هـ
الموافق 25/ مارس 2006م بجامع الملك خالد بالرياض ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .
وكانت لوفاته رنّةُ حزن وأسى في قلوب السعوديين ولاسيّما الذين عرفوا فضله وأحبّوه لخلقه الكريم ، وصفاته النبيلة ، وأعماله التعليمية والتربوية ، وخدماته الجليلة التي شملت كلاًّ من مجالات التربية والتعليم ، والثقافة والأدب ، والفكر والاجتماع ؛ ومن ثم كثر المحبون والمعجبون ؛ حيث تربّى على يديه كثير من كبار القادة والمسؤولين والمتولين مناصب كبيرة في الإدارة والحكم ؛ فكان يُعْرَفُ بـ«معلم الأمراء وصديق المساكين».
رثته
أقلام كبار الكتاب والمثقفين في المملكة بعبارات تقطر بحزن غير عاديّ وألم لايشعر
به إلاّ الأبناء البررة الفخورون بعظمة آبائهم حين يفقدونهم .
كان
الشيخ عثمان الصالح من «خريجي
الكتاب»
ولم يكن خريجًا في كلية أو جامعة رسميّة ، ولم يكن يحمل سابقة «الدكتور»
؛ ولكنه خرّج في حضنه التعليمي ومهده التربوي قطاعًا عريضاً من الأساتذة والمثقفين
الكبار . وُلِدَ بالمجمعة عام 1335هـ / 1917م وفيها قرأ مبادئ القراءة، وحفظ
القرآن الكريم في صباه ولازال يافعًا ، وكانت سلوكياته المبكرة تنم عن ذكائه
ونبوغه وقوة حفظه في جانب، وصلاحه واستقامة سيرته ومستقبله المُفْعَم بالانتصارات
الدينية والتوعوية في جانب آخر . وثنّى بحفظ طائفة صالحة من الأحاديث النبوية .
وبدأ حياته الدراسية اللاحقة في «عنيزة»
بدعم وتوجيه من أخيه الأكبر المربي الفاضل صالح بن ناصر الصالح رجل التربية الأول
في مدينة «عنيزة»
مما جعله قابلاً لاحتواء المعارف والعلوم ، فنال من العلوم الحديثة والأدب العربي
والفقه وأصوله القدرَ الذي جعله يبذّ أقرانَه .
ثم
بدأ يُدرِّس . وبدأ رحلته التدريسية كمدرس في مدرسة أهلية بالمجمعة ، ثم تحوّل
مدرسًا في أول مدرسة حكومية فيها ، ثم أصبح معلمًا ومربيًا لأبناء سمو الأمير عبد
الله بن عبد الرحمن آل سعود – رحمه الله – ثم تولى تعليم وتربية أبناء سمو الأمير
سعود بن عبد العزيز آل سعود – رحمه الله – عندما كان وليًّا للعهد . وذلك في «مدرسة
الأنجال»
التي عُرِفَت بعدما تطورت باسم «معهد
العاصمة النموذجي» . وعلى ذلك ظل الشيخ
عثمان يواصل مسيرته التربوية ، ويخرّج رجالاً يصنعون التأريخ ،ويخلدون المآثر،
ويخلفون الآثار.
وقد
سجّل التأريخُ أن الشيخ عثمان الصالح – كما أكد جميع الذين كتبوا عنه وهم كثر – لم
يكن معلمًا يحرص فقط على تلقين الطلاب المقررات الدراسية والموادّ المعرفية ، ولا
يهتم بالجوانب التربوية والنواحي الإصلاحية ، فلا تبقى بصماته في طلابه
والمستفيدين منه؛ بل كان معلمًا يجمع بين التعليم والتربية على السواء، ولا يتجاهل
عن أي منهما ، فبقي تأثيره قويًّا على تلاميذه في جميع مراحل حياتهم ولايزالون
يذكرون كريم عنايته وجميل رعايته وحرصه البالغ على غرس الفضائل في نفوسهم ومحو
الرذائل عن أشخاصهم ، وتخريجهم مسلمين واعين غيورين على دينهم وعقيدتهم ومنفتحين
على متطلبات الحياة السيّارة .
وهناك
مزايا كانت تفرد المربي الكبير الشيخ عثمان الصالح عن معاصريه وأقرانه ، فجعلته
شامخًا وشامًّا بينهم منها :
1-
لم يكن فقط معلمًا فذًّا أو مربيًا عبقريًّا وإنما كان أديبًا ومؤدبًا، ومهذب
اللسان والتعبير، ومصلحًا احتماعيًّا ، استنار به المجتمع في شتى قطاعات الثقافة
والمعرفة .
2-
كان من المعمرين الصلحاء الذين انتفع بهم الخلق ، واستقام الأجيال ، وصلح المجتمع
؛ فقد عاش أكثر من 90 عامًا، عمره بالحسنات، وغمره بالفضائل.
3-
في هذا العصر الذي طغت فيه المادة والمعدة وأصبحت إلهًا يُعْبَد لم تهمّهه المباهج
الماديّة والزخارف الدنيوية ، ولاسيّما في بلد مثل السعودية التي شهدت في عصرها
الحديث كل لون من ألوان التقدم والقفزات الاقتصادية والطفرات التجاريّة ؛ فظل
الشيخ عثمان يعيش حياةَ زهد وتقشف وقناعة مثل سلفه الأبرار الذين لم تكن مباهج
الدنيا عندهم تعدل جناح بعوضة .
4-
على عكس كثير من العلماء الذين يؤثرون الصمت في محراب العبادة والذكر ولايهتمون
إلاّ بالشأن الخاصّ والاهتمام بإصلاح الذلت فقط ، ظل الشيخ الصالح يتعرّض للأمراء
والقادة بالنصح والرأي والمشورة؛ فكان يسدي إليهم من الإرشاد ما يراه يسدّد خطاهم
على الصراط المستقيم ، ملفوفًا بأدب جمّ ، ولغة عذبة ، وأسلوب حكيم .
5-
على عكس معظم المعلمين والمربين كان يتعامل مع الطلاب بالمساواة والعدل ، ولايراعي
في التعامل معهم مكانتَهم الاجتماعية أو اعتبارَهم الرسمي .
6- كان يلتزم بروحه الرسالية وعاطفته
التربوية مهما كان الأوان والمكان . وكان يحرص على الصدور عن النواحي الإنسانية في
معالجة كل مشكلة من المشاكل التي تنجم بين الطلاب ؛ فكان لايتعدّى اللوائح
النظاميّة المرسومة ؛ فكان كل طالب يظن أنّه لايحب إلاّ إيّاه .
7-
كان لايجانب الاتزانَ في تعامله مع كل من المدرسين والطلاب والموظفين ، مهما كانت
الحال ؛ فكان يصدر دائمًا عن الاحترام المتبادل الذي يوثق العلائق ، ويوطّد
الأواصر، ويمتن الأخوة ، ويجعلها صامدة في وجه العواصف التي قد يثيرها الظروف .
لقيتُه
في كثير من قدماتي إلى المملكة، فوجدتُه –والعلم عند الله – صالحًا بمعنى الكلمة
فكان له نصيب وافر من اسمه . وكان إلى جانب ذلك بهيَّ الطلعة، جميلَ المظهر ، رائع
المنظر، عفَّ المخبر، تُزَيِّن وجهَه لحيةٌ كثّةٌ ، وشعارٌ ديني، وزيُّ عربيّ ،
وملبسٌ يرتديه الصلحاء من العلماء الأتقياء ، من رآه أَحَبَّه، ومن عرفه أَلِفَه ،
ومن عايشه آلمه فراقه ، ومن طلع عليه عفوًا تأكّد أنه عبد من عباد الله الصالحين وأوليائه
المتقين .
رحمه
الله ، وأدخله فسيحَ جنّاته ، وأسكنه فيها بجوار نبيه محمد ، وألهم أهله وذويه
الصبر والسلوان.
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية - رجب
1427هـ = يوليو - أغسطس 2006م ، العـدد : 6-7 ، السنـة : 30.